كسر الكبرياء
لعل الكبرياء هى أعظم الخطايا جميعا، ويكفي أن نعرف أنها سبب سقوط
الشيطان وكذلك الإنسان. ويخبرنا إشعياء النبى عن سقوط الشيطان هكذا:”كيف سقطت من
السماء يازهرة بنت الصبح؟! كيف قطعت إلى الأرض ياقاهر الأمم، وأنت قلت في قلبك
أصعد إلى السموات أرفع كرسي فوق كواكب الله وأجلس على جبل الاجتماع في أقاصى
الشمال، أصعد فوق مرتفعات السحاب. أصير مثل العلى، لكنك انحدرت إلى الهاوية إلى
أسافل الجب” (إش 14 : 12– 15). كما نرى أيضا كيف اسقطت الكبرياء الإنسان بغواية الحية
حينما أقنعت حواء وآدم بأن يدخلا في التعالي بعدم الطاعة لوصية الله: “…فقالت
الحية للمرأة لن تموتا، بل الله عالم أنه يوم تأكلان منه تنفتح أعينكما وتكونان
كالله عارفين الخير والشر… فأخذت من ثمرها وأكلت وأعطت رجلها أيضا معها فأكل،
فانفتحت أعينهما وعلما أنهما عريانان… وقال الرب الإله هوذا الإنسان قد صار كواحد
منا عارف الخير والشر… فأخرجه الرب الإله من جنة عدن ليعمل الأرض التى أخذ منها”
(تك3: 4 – إلخ).
كذلك نجد أن هذه الخطية كانت سببا في تشتت الناس على وجه كل الأرض
واختلاف لغاتهم، وهو ما نقرأه عن قصة برج بابل، حيث نرى جذور الكبرياء تسبق تصرفات
الإنسان المتعالي. فيخبرنا الكتاب عن كوش بن حام أنه: “ولد نمرود الذى ابتدأ يكون
جبارا في الأرض، الذى كان جبار صيد أمام الرب، لذلك يقال كنمرود جبار صيد أمام
الرب، وكان ابتداء مملكته بابل وأرك وأكد وكلنة في أرض شنعار… وكانت الأرض كلها
لسانا واحدا ولغة واحدة، وحدث في ارتحالهم شرقا أنهم وجدوا بقعة في أرض شنعار
وسكنوا هناك، وقال بعضهم لبعض هلم نبنى لأنفسنا مدينة وبرجا رأسه بالسماء ونصنع
لأنفسنا اسما لئلا نتبدد على وجه كل الأرض، فنزل الرب لينظر المدينة والبرج اللذين
كان بنوا آدم يبنوهما وقال الرب… هلم ننزل ونبلبل هناك لسانهم حتى لا يسمع بعضهم
لسان بعض، فبددهم الرب من هناك على وجه كل الأرض”(تك 10 ، 11).
إن خطورة خطية الكبرياء هى محاولة الخليقة العاقلة – مثل الملائكة
والإنسان – أن تصير مثل الله العلي. ولكن كيف يمكن للخليقة أن تصير مثل الخالق؟!،
ولا يعنى هذا أن الله يخاف على مركزه كإله فهوالمكتفي بذاته ولا يحتاج لخلائق آخرى
أن تقدم له المجد والكرامة والسجود، فهومطلق المجد والكرامة في ذاته ولكن كما يقول
معلمنا بولس الرسول: “فإنى أقول بالنعمة المعطاة لي لكل ما هوبينكم ألا يرتئي فوق ما
ينبغى أن يرتئي بل يرتئي إلى التعقل”(رو12 :3). والله من محبته وطبيعته الخيرة خلق
الملائكة مع القوات السمائية كأرواح عاقلة ليكون لها شرف القربى من الله والتسبيح
والتمجيد لاسمه القدوس بفرح وتهليل لا ينقطع، وهى خلائق نورانية تستمد بريقها من
الحضرة الدائمة في نور الله. والملائكة الذين ثبتوا في هذا المجد بالطاعة الكاملة
لله، ثبتوا في رتبهم وأما”لوسيفر”الذى كان رئيسا للملائكة وتكبر بواسطة معرفته
الكثيرة وإنفصاله بالفكر عن الله مصدر النور والمعرفة، تكبر في ذاته ظنا منه أنه
يصير مثل العلى… فسقط. ولم يكن هناك سبب لسقوطه سوى كبريائه الذاتي، إذ كان من
طغمة الكروبيم المملوءة أعينا أي مملوءة معرفة. من هنا كان تعجب إشعياء النبى من
سقوط رئيس الملائكة هكذا فتساءل: كيف سقطت يازهرة بنت الصبح؟! ولأن الشيطان كان
مملوءا معرفة، فهو يدرك تماما ما يعمل وما يفكر فيه وخطورة سلوكه المتكبر، فسقط من
رتبته هو وجميع الملائكة الذين تبعوا فكره فصار رئيسا للشياطين ومقاوما لله إلى
النهاية. وبذلك فليس له خلاص بل قد اعدت له ولجنوده البحيرة المتقدة بالنار
والكبريت إلى الأبد.
إن مقاومة الله للكبرياء والمتكبرين سببه أن الكبرياء هو عمل الشيطان
الأول وكذلك كل اتباعه. لذلك يقول معلمنا بطرس الرسول في رسالته الأولى: “تسربلوا
بالتواضع لأن الله يقاوم المستكبرين وأما المتواضعون فيعطيهم نعمة، فتواضعوا تحت
يد الله القوية لكى يرفعكم في حينه” (1بط 5 :6،5).
أما الإنسان المسكين فرغم أنه سقط من جراء خطية الكبرياء، إلا أنه قد
أعطي من قبل الله المتحنن أن يأخذ فرصة للخــلاص:
أولا: لأن الأنسان فيه عنصر ضعيف وهوالجسد الذى خلق من التراب.
ثانيا: الأنسان قد أغوي بواسطة الحية القديمة أي الشيطان. والغواية
هى الكذب المغلف بصورة الحق. والشيطان كما دعاه السيد المسيح أنه “كذاب
وأبوالكذاب” (يو8 : 44). لذلك نسمع تقرير الله عن البشرية أنها سبيت لعدم المعرفة،
وأنها سبيت مجانا، من أجل هذا جاء المسيح ابن الله ليخلصنا دافعا الثمن عنا لمحبته
الفائقة دون مقابل.
ثالثا: في عملية الخلاص الإلهية، عالج الرب كبرياء الانسان باتضاعه
العجيب، إذ”أخلى نفسه آخذا صورة عبد، صائرا في شبه الناس، وإذ وجد في الهيئة
كأنسان وضع نفسه وأطاع حتى الموت موت الصليب”(في2 :7 ،8)، ورأينا السيد منحنياعلى
أقدام تلاميذه يغسلها وينشفها بمئزرته، وهنا عرفنا الطريق لنكون مع الله فى وداعته
واتضاعه “تعلموا مني لآني وديع ومتواضع القلب فتجدوا راحة لنفوسكم”(مت11: 29).
فطريقنا إذن إلى الملكوت وأمجاد الله هو السلوك بالاتضاع الحقيقى.
تشامخ الروح:
يحدثنا الكتاب فى سفر الرؤياعن ملاك كنيسة اللاودكيين مشيرا إلى حالة
تشامخ الروح “…لأنك تقول إني غني وقد استغنيت ولا حاجة لي إلى شئ، ولست تعلم أنك
أنت الشقى والبئس وفقير وأعمى وعريان”(رؤ 3: 17). وهذه من أخطر الحالات التي تصيب
الإنسان أنه يشعر بالاكتفاء فى ذاته. إنه العمى الداخلي الذي يقود إليه تشامخ
الروح. وما أشقى مثل هذا الإنسان الذي فى تشامخه يضل طريقه إلى ملكوت الله. هنا
نسمع قول السيد المسيح فى عظته على الجبل:”طوبى للمساكين بالروح لأن لهم ملكوت
السموات” (مت 5: 3).
ياأحبائي، يليق بنا كطالبي الملكوت وساعين نحومجد السماء مع المسيح
الملك، أن نسلك فى حياتنا باتضاع الروح ووداعة القلب والبعد عن الكبرياءوتشامخ
الروح، بدئا من الداخل وانتهاء بكل تصرفاتنا وكلماتنا ومعاملاتنا فى الخارج مع
الله والناس. فجيد لنا أن نعرف كيف نتضع أمام الله فى صلواتنا بانتباهة الروح
والذهن واستعداد الجسد لإطاعة الشعور بحضرة الله العلي ملك الملوك ورب الأرباب.
هنا يلذ لنا السجود كثيرا أمام الله فى الصلاة مع كثرة الحمد والشكر على إحساناته
وغفرانه ومحبته التى لا تحد. ويليق بنا أن نمسك بالصليب فى صلواتنا، نقبله كثيرا
لأن فيه استعلان عظم محبة الله لنا وإخلائه لنفسه باتضاع حقيقي وسر لا ينطق به من
أجل خلاصنا. كما يجب أن نعترف بضعفنا وخطايانا وتعدياتنا وآثامنا وكسرنا لوصايا الله
ونحن مطأطئي الرأس أو في حالة سجود أمامه طالبين بدموع كثيرة أن يتحنن علينا ويقبل
توبتنا منعما علينا بالغفران.
أما بالنسبة لتعاملنا مع أنفسنا فى هذا المجال، فلابد أن نتيقن أن كل
شئ حسن وجيد فى حياتنا هو هبة من الله ونحن وكلاء عليها، سواء كان مواهب أوفضائل روحية
أوعلى المستوى المادي إن كان صحة أومال أوأقارب أوأصدقاء أو وطن أوعلم أوعمل
لنعمله، فهذه جميعا من فيض خير الله وعطاياه لنا، وما نحن إلا وكلاء على هذه
جميعا، وسنسأل عن مدى أمانتنا فى كل ما أعطينا لأنه سيأتي وقت ونسمع الصوت القائل:
“أعطي حساب وكــــالتك”(لو16: 2). من هنا فليس لنا افتخار في ذواتنا عن كل ما قد
وهب لنا من الله مجانا. وإن كان هناك مجد أو كرامة تقدم لنا لسبب الخير الذي نحن
فيه، فلابد لنا أن نرجع المجد والكرامة والشكر لله مصدر هذه النعم والبركات وجميع
الخيرات. أليس هذا ما تعلمه لنا الكنيسة فى صلاة الشكر التي نصليها فى كل صلاة؟!
“فلنشكر صانع الخيرات”، نصليها من القلب ونعلن هذا أمام العالم كله “ليكون فضل
القوة لله لا منا” (2كو4: 7).
ثم ليكن لنا السلوك المتضع والوديع فى تعاملنا مع الآخرين فى تقديمهم
عن أنفسنا”وادين بعضكم بعضا بالمحبة الأخوية، مقدمين بعضكم بعضا فى
الكرامة”(رو10:12). كما يليق فى حياتنا المتضعة أن نبحث عن المتكأ الأخير فى شعور
داخلى أن الآخرين أفضل منا، فالمتكأ الأخير ليس مقعدا فى أخر الصفوف ولكنه قلب
وروح متضعة فى داخل الشعور والضمير. ألم نسمع بولس الرسول يتكلم عن نفسه أنه أول
الخطاة، وأنه رغم تعبه أكثر من جميع الرسل إلا أنه يذكر عن نفسه أنه مثل السقط قد
ظهر له المسيح وأنه أيضا آخر الكل.