الكِبَر و التواضع / للقديس يوحنا الذهبي الفم
عِظَة: الكِبَر والتواضع /للقديس يوحنا الذهبي الفم
فدعاهم يسوع وقال لهم:علمتم
أن الذين يحبّون رؤساء الأمم يسودونهم وعظماءهم يتسلَّطون عليهم، أما
أنتم فلا يكون بينكم هكذا، بل مَن أراد أن يصير عظيماً فيكون لكم خادماً (مر 10/42)
إذن، لا
تخف أن تضيّع مجدك بتواضعك. فبالتواضع ترتفع أكثر من قبل. إن التواضع باب
الملكوت السماوي. فلماذا تسير نحو الباب المعاكس.
لماذا
تتسلّح ضد نفسك؟ إن شئت أن تكون عظيماً فلا يكون ذلك. إن كانت عظمتك عن
طريق الكبر فلا بدّ لك من السقوط. فإذا لم تطلب العظمة كنت عظيماً لأن
العظمة تأتي من التواضع.
إن عظمة
التواضع هي العظمة الحقيقية لأنها لا ترتكز على الكلام والألقاب. فالذي
يترك الكبرياء يكون عظيماً، والذي يتَّصف بها يكون صغيراً ولو كان سيداً.
ان المجد الذي يأتي عن طريق العنف والقسر لا يلبث أن يضيع. أما المجد المرتكز على الأعمال الصالحة فهو ثابت لا يتزعزع ولن يزول.
لذلك نحن نكرِّم قدّيسي الله الذين ارتفعوا على الجميع بتواضعهم ولم يستطع الموت أن ينزع مجدهم عنهم.
لنثبت هذا
ببراهين معقولة: اعتاد الناس حسب الاصطلاح أن يدعوا العالي مَن كان كبير
الجسم وطويل القامة أو كان واقفاً في مكان مرتفع. والواطيء من كان على
العكس. فلنبحث مَن هو العالي الحقيقي.
أهو
المتكبِّر يا ترى أم المتواضع؟ اننا نثبت جيداً أن لا شيء أعلى وأرفع من
التواضع، ولا شيء أدنى وأوطأ من الكبر. المتكبر يرى نفسه أعلى من الجميع
ولا يجد أحداً معادلاً له مهمَا سما، لأنه يطلب المزبد ويحتقر الآخرين،
ويطلب منهم أن يجلُّوه ويحترموه.
فيا
للجهالة! ما أبعد غرضه عن العقل السليم، انه يطلب الاحترام ممن لا يحترمهم
ولا يعدّهم شيئاً، وهكذا بهذا الارتفاع الزائف يهبط إلى الحضيض. وبعدم
اعتباره غيره يكشف عن شخصه ويدلّ على أن الأخلاق السيئة صفة المتكبرين!
أما
الكبير الحقيقي فيحترم الآخرين ولا يتكبَّر عليهم ويعدّ احترامهم إياه
أمراً عظيماً. وبهذا يكون كبيراً حقّاً. ولبعده عن الشهوات الرديئة لا يطغى
عليه الغضب، ولا يتظاهر بالرفعة، ولا يأكله الحسد والغيرة. فهل من نفس
أرفع من هذه النفس المنزّهة عن الصفات الرديئة؟
أما
المتكبِّر فعكس ما ذكر، لأن نفسه ثائرة بالحسد والبغض والغضب. فمن هو
المتكبر الحقيقي؟ أذلك الذي تناله الشهوات ولا تتسلّط عليه؟ أم الذي يكون
عبداً لها فيضطرب ويرتعد منها؟
أي هو
الطائر المحلِّق في الفضاء؟ أذلك الذي يطير فوق سهام الصياد أم الذي يهبط
إليها لعجزه عن الارتفاع؟ هكذا المتكبِّر يقع في أول أحبولة لميله إلى
الهبوط إلى الحضيض،
وعكسه المتواضع الذي يرتفع إلى ما فوق الشمس ويحلِّق في طبقات الجوّ تاركاً الملائكة وراءه حتى يقترب من عرش إله المجد.
ثم لكي نبين حقارة المتكبرين نسأل مَن هو المحتقر يا ترى؟ أذلك الذي يقدم ذبيحته أمام العليّ، أم ذلك الذي لا يجسر أن يتقدّم إليه؟
وقد
تقول: ما هي ذبيحة المتواضع؟ فأُجيبك بقول مرنِّم المزامير: ?الذبيحة لله
روح منسحق. القلب المتخشع المتواضع لا يرذله الله? أترى طهارة المتواضع؟
انتبه جداً لرجاسة المتكبر! ان كل ذي قلب متعجرف لا يبرر أمام الله، ناهيك
أيضاً بأن المتواضع مسكن لله.
أما
المتكبر فيتعذّب مع إبليس لأن عذاب المتكبر كعذاب إبليس. وهكذا يحصل
المتكبر على عكس ما يريد أن يتكبر حتى يحصل على الفخر والاعتبار فيمسي
عرضة للهزء والاحتقار.
فهل من
حالة أتعس من الحالة المذكورة؟ نعم انها لشرّ مستطير! ان المتواضع يرضي
الله وهو محبوب ومغبوط ويتمتع بثقة البشر لأنهم يحترمونه كأب، ويحبّونه
كأخ، ويقبلونه كأعزّ الناس لديهم.
لا يكره
الله شيئاً كالكبرياء. لذلك، منذ البدء، عمل على إبادة هذه الخصلة الذميمة
من البشر، التي بسببها نموت، ومن أجلها نعيش في غور البكاء، ونصرف حياتنا
بالتعب والمشقات، فلا يجدينا الكبر شيئاً بل يسلبنا ما لدينا.
فالإنسان
الأول وقع في الخطيئة بالكبرياء لأنه أراد أن يكون معادلاً لله فأضاع ما
كان عنده. أما التواضع فلا يسلبنا شيئاً بل يزيدنا نعمةً وخيراً.
لنسِرْ
إذاً إثر التواضع حتى نسمو ونسعد في حياتنا ونحصل على المجد الآتي بنعمة
سيدنا يسوع المسيح ومحبته للبشر الذي له مع الآب والروح القدس المجد
والملك والشرف والسجود من الآن وإلى دهر الداهرين.